الأحد، 23 أغسطس 2020

ما أنا بقارئ




في أثناء قراءتي للرواية التي كنت أعتقد بأنني أعرف النهاية جيداً. كنت أحاول الاستنتاج وفك رموز الكاتب من خلال تلك الجمل التي يقولها الأبطال، أو المواقف التي تحدث معهم، كانت الحبكة بالنسبة لي واضحة وبسيطة. فهي ليست القصة الأولى التي تقع في يدي، ربما الفارق الوحيد بينها وبين أي كتاب قرأته قبل الآن هو طول صفحاتها، فهي أخذت ثلثي عمري تقريباً. طويلة جداً!  على الرغم من أن أغلب الأحداث كانت مملة نوعاً ما، وتشابهت فيها بعض الأمور، إلا أنني لم أتركها شأن أي كتاب لا يعجبني، فأنا لا أعطي أي فرصة للكتب الرديئة. والسبب يكمن في أنني أرفض أن يضيع وقتي على محتوى سيء، الحياة أقصر من أن أجبر نفسي على شيء لم ترضى به، لا يوجد مساحة لحشر كل شيء، الساعة لا تكفي، والعقارب ستتوقف يوماً ما. ومن وجهة نظري التي قد يخالفني فيها البعض أرى أنها فكرة سديدة، حيث أن العالم مليء بالكتب التي لم تقرأ بعد، مليء بما لم يكتب. لكن في نفس الوقت ضعفت أمام هذه الرواية. هي عادية جداً إلا أن في سطورها شيء يستحثني على الإكمال. تصيبني أحياناً حالات فتور ناحيتها، أتركها بجانب سريري لأيام متناسية وجودها بجانبي حينما، تمر أيام كثيرة وأنا أصعر وجهي لها، مخاصمة. فأجد نفسي وقد خاصمت نفسي أصلاً، حيث أعرض عن القراءة كلياً لأنني معلقة بين أوراقها، لا أستطيع الانتقال إلى القصة التي تليها ببساطة. يجب أن أنهيها كاملة. ويا لسذاجتي.

لا أدري إذا كنت دائماً بهذه الحماقة أم لا! ففي كل التجارب السابقة كنت لا أشغل عقلي بالنهاية. كنت أستمتع بالرحلة مع الكتاب الجديد قدر المستطاع، وبغمضة عين وبدون أن أشعر أجدني قد انتهيت منه. لم أجعل حكمي ينطلق قبل الوصول. وهذه المرة الأمر مختلف وجديد، سمحت لنفسي بإطلاق الظنون بناء على ما كتب، على ما ألقي إلي، بناء على ما قاله الأبطال وأراده الراوي، ثم أنني أحسنت نيتي وصدقت كل السطور، وهذا هي عادتي في كل الأمور، أتبع قاعدة بسيطة استنتجتها منذ زمن بعيد أن الأصل في القصص الإحسان مالم يرد أي دليل ينفي ذلك. وبت أتسائل هل هذه قاعدة حمقاء أيضاً؟ هل يوجد أي قاعدة أصلاً؟ أ من الجيد وضع القواعد؟ وهل مقولة لكل قاعدة شواذ صحيحة؟ إذا كان هناك من استطاع الهرب والتملص من القاعدة فكيف لي بتصديقها بعد ذلك؟ دائماً تعصف برأسي الأسئلة التي لا أجد لها حلاً. وربما كان هذا الحال المناسب لي.

حينما اعتقدت أنني أدركت ما كان يجري أمامي على صفحات الرواية اللعينة، وكففت عن طرح الأسئلة معلنة تفوقي عليها، وجدت العاقبة في النهاية. كل ما قيل وذكر وكتب وحدث وصار وفُعل فيها كان من أجل خدمة الراوي والأبطال وليس القارئ. ليس هنالك أي نهاية، بل ثقب أسود يجرك نحوه إلى الأبد، فتدور وتدور في حلقة مفرغة بيضاء ناصعة واضحة الملامح، والمصيبة أنه لا يوجد غير نسخة وحيدة من هذه الرواية، ووقت بل عمر واحد قد أهدر.

 

 

الأربعاء، 20 مايو 2020

إنه كان بي حفيا






كنت عطشى، أشعر بالظمأ ولا أرتوي أبداً، والأرض قاحلة والسماء صحو، ولا أدري أين أولي وجهي، وفي أي جهة أمد لساني الجاف، وكيف أرمم سقف حلقي المتهالك. أحاكي هاجر عليها السلام في الصعود والنزول، مع يقيني بأن لا أحد معي فيفجر الله من تحته لي عيناً أرتوي منها. حينما أصعد قمة الجبل أرقب ماء ليس بالبعيد يتلألأ، يغريني بالاقتراب أكثر، فأنزل! وأصدق واقترب، ثم أقترب، وأكاد أصل، وأطمئن نفسي بأنه بقي القليل، ها هو هناك، وأظل على تلك الحال حتى يحل الليل، فيطرحني التعب أرضاً، أستسلم وأرفض الركض خلف المجهول، ثم يحل الصباح ثانية فأرى نفس بقعة الماء، بنفس اللمعان، وبإغراء أكثر أقوم فأركض خلفه مرة أخرى. وهكذا حتى مللت وتوقفت. وليت أن الملل تلبسني منذ السعي الأول. وقفت وبكل يأس نظرت نحو السماء، إنها الوسيلة الوحيدة منذ الأزل، الوسيلة الوحيدة ليخرج من الأرض زمزمٌ خاص بي أنا، لي وحدي، الطريقة التي سيتحول فيها السراب إلى حقيقة. وهي عادتي القبيحة في تذكر الأشياء عند اليأس، أو أن أعرف إلام تؤول الأشياء بعد فوات الأوان. ما يفرقني عن هاجر أنه منذ البداية عرفت أن الله لن يضيعها، رأت مستقبلها المخضر في وسط حاضرها الأجدب! حينما أيقنت أنه أمر الله، كانت تصعد وتهبط وهي تعلم يقيناً في قلبها أن الله سيرسل الخير، أنه هو سبحانه بيده سيغير الكون من أجلها، سيقول كن فيكون. وأنا وصلت لهذا اليقين متأخرة. ولكن وصلت! والوصول بالنسبة هو أهم نتيجة في الرحلة، حتى لو كانت الخطى بطيئة، ومتعثرة، وعشوائية. وبيقين هاجر، واطمئنان قلب إبراهيم، وبعطش إسماعيل عليهم جميعاً السلام، رفعت يدي نحو المساء مبتهلة متضرعة، أرجو من الله وأطلبه أن يسقيني شربة ماء، شربة بسيطة لعلي أكمل بها مسيري نحو المجهول.
وإذا بالسماء تمطر.